إيلاف من الدمام: ينبني مسلسل "خيوط المعازيب" على ما يُعرف بالبيتية الثقافية. وهو سياق يحيل العمل الأدبي أو الفني إلى خزان للتقاليد والقيم الاجتماعية والعمرانية والسلوكية. أي التعامل مع الموروث المادي واللامادي كقيم متحفية تستعرض الأبعاد الهوياتية وتعيد توطينها في ذهن المتلقي. حيث كُفل للمسلسل كل الإمكانيات التقنية واللوجستية سواء على مستوى تهيئة المكان أو التصوير أو الإضاءة أو الديكور والاكسسوارات وحتى إعداد الممثلين وضبط اللهجة، التي سجل بمقتضاها المسلسل صورة متحفية باهرة؛ صورة للذكرى. أو بمعنى أعمق وثيقة اجتماعية. وذلك باستقراء الصورة الكلية للمجتمع الأحسائي من خلال قراءة وعرض حي أحسائي هو بمثابة وحدة صغرى يشكل تجاورها مع الوحدات الأخرى الشكل الأكبر لماضي الأحساء. حيث هُدم الجدار الوهمي الفاصل ما بين الدراما ويوميات الحياة في ذلك الفضاء.

بمقتضى علم اجتماع الدراما فإن "خيوط المعازيب" منتج ثقافي إبداعي. ولا يمكن فهمه بمعزل عن سياقاته الاجتماعية والاقتصادية. وهذا هو ما يفسر تحديق العدسة في كل ما يحدث في الفضاء الأحسائي، كلعب الأطفال في الأزقة، وغنائهم، وسباحتهم العفوية في العين، وتجوال النساء في السوق، وخروج المصلين من المسجد، وعمل الفلاحين في الحقول، وتسامر الرجال في القهوة، إلى جانب الحركة الدؤوبة في مجالس معازيب البشوت، حيث يتبأر المسلسل في هذا الموقع بالتحديد. وكل ذلك من أجل تشكيل صورة بانورامية لحياة الحي. وهو بهذا الاستنساخ الواعي لماضي المجتمع الأحسائي أراد التأكيد على بطولة المكان والارتقاء بالمسلسل الدرامي إلى مرتبة النظام الاجتماعي.

وإذا كان الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، فإن الجمال أيضًا يندس في التفاصيل. إذ لم تغفل العدسة أي إشارة تراثية من الموتيفات الشعبية في البيوت الطينية والطرق الترابية والأسواق ورائحة (الطبينة). كما تمثل ذلك أيضًا في ملبوسات النساء واكسسوارات الزينة كالتراچي مثلًا والمرتعشة والديرم. حيث نُفذ كل ذلك بدقة فائقة كما لوحظت -مثلًا- في (شخوط) بدرية (ريم ارحمة) لحظة استقبالها لزوجها. وهو فرق شعر الرأس البرتقالي، المكون من مزيج بودرة الزعفران والياسمين والبخور. وفي طقس حناء أم أحمد (لبنى أبو خمسين). وكذلك شك المشموم لتعليقة كزينة في شعور النساء. وهي تمثلات بصرية واستعمالية تعكس في ذهن المشاهد منظومة أخرى من أبعاد الهوية.

ولأن الدراما مظهر لإحدى الحاجات الاجتماعية الكبرى، المتمثلة في الطقوس والشعائر، بتصور مارتن أسلن، أكد المسلسل على تلك الأبعاد في محاولات سارة (آمال الرمضان) للإنجاب من خلال رحلة طقوسية شاقة بدأت باللجوء إلى (المراخة) ثم (الفحال) وصولًا إلى (لطبوب). وكذلك في صورة فرحان (محمد عبدالخالق) وهو يربط عضده بالـ(جامعة) وهي تعويذة لتحصين الشخص من الشرور. وأيضًا في البيض المكسور حول جذع النخلة دفعًا للعين، هذا إلى جانب اللهجة التي تختزن روح ومزاج الكائن الأحسائي، وكذلك معجم مهنة حياكة البشت بما تحتويه من مفردات: البردخة، والزري والسموط والبارقة والسدوة والكرمك والبرنجي والمسوبع وغيرها من تقنيات وأدوات حياكة البشت.

كل تلك المادة الخام من الموروث، صاغها المسلسل في موضوع درامي، على إيقاع الحنين للزمن الآفل، حيث تم استثمار ذلك التوق لرسم صورة مقربة للتاريخ الاجتماعي، كما تفترض الدراما باعتبارها سجلًا اجتماعيًا يؤرخ للظواهر والتحولات. وإن غاب عن المسلسل الحدث المركزي الذي يشد مجمل عناصر العمل إليه. كما كان الاعتناء بتزمين الأحداث أقل من العناية بالمكان، حيث بدا ذلك على درجة من الوضوح في ارتباك تحقيب أحداث المسلسل من خلال العلامات الزمنية المتضادة المزروعة في مفاصل المسلسل، التي كانت تبعث بإشارات مضللة للسياق الزمني فضاع الخط الإرشادي للتسلسل الزمني. كما كان الزمن الدرامي على درجة من البطء ليتطابق ربما مع زمن الزمن الواقعي للحي البعيد عن القفزات والمفاجآت والتحولات.

كذلك تركزت كل عناصر القوة في شخصية واحدة دون غيرها، وهي شخصية المعزب أبو عيسى (عبدالمحسن النمر). حيث أسس ذلك الاستئثار الطاغي بالسلطة إلى الإخلال باللوحة الاجتماعية الإنسانية، وكأن المسلسل قد كُتب ليُسائل تاريخ الخزي للمعازيب، ويندد بمرحلة الإقطاع. كما تفصح عن ذلك أيدلوجيا كاتب العمل حسن العبدي. الذي وهب للمعزب شخصية متعددة الأبعاد مقارنة ببقية الشخصيات التي تحشدت في الهامش. وإن كان حذرًا في إدانة البنية الاجتماعية المهترئة، انتصارًا لرومانسية الزمن الجميل. وبالتالي غابت ثيمة الصراع الكفيلة بإضفاء قيم التشويق والإثارة على العمل. فشخصية المعزب أبو موسى (سمير الناصر) شخصية مسالمة، وغير محتشدة دراميًا. وشخصية جاسم (إبراهيم الحساوي) ذات طابع رومانسي سلبي تتمظهر تارة بصورة الحائك وأخرى بهيئة الدرويش صانع أواني فخارية، وثالثة بملامح المفكر التنويري، ضمن إطار زمني محدود، إلا أنها في مدار مفهوم الوظيفة الدرامية تبدو عاطلة وغير قادرة على مقارعة شخصية أبو عيسى التي شُحنت دراميًا بكل عناصر القوة.

هكذا غلب على المسلسل الطابع البصري. أو بمعنى أدق العرض الملحمي السردي، عوضًا عن النمط الدرامي. ولذلك بدا النص وكأنه لا ينمو على المستوى الدرامي. إذ لم يتهيكل في حبكة تشد كل عناصر العمل، وتحمل الشخصيات على دوافع. بحيث صارت المشاهد تراوح في مكانها لتحنيط تلك اللحظات الجمالية، ولا تتدرج في مشاهد تكرارية إلى الأمام. بمعنى أنها تميل إلى السكونية وتحقق وظيفتها الدرامية في تثبيت الصورة النوستالجيا فقط، الأمر الذي أدى إلى تبديد فرص بروز الحدث المركزي. حيث يبدو ذلك على درجة من الوضوح في شخصية الفلاح أبو سويلم (راشد الورثان) الذي تكررت مشاهده وهو يغني بين النخيل أو يواصل الحفر العبثي بحثًا عن الماء مع اشتباك هامشي ببقية الشخصيات. وهو مآل ينطبق على مجمل الشخصيات. تمامًا كما كانت معركة جوليا ما بين جاسم وسلطان مجرد معركة مفتعلة على الهامش لتوليد حدث يمكن أن يخلق نوعًا من الإثارة والتشويق.

خيوط المعازيب عمل فني واقعي، صريح ومباشر، ولا يستبطن ما يُعرف دراميًا بالنص التحتي، الملغز بالإشارات والرسائل. حيث كُتب ونُفذ فنيًا بمعزل عن أسلوب الاستعارات الشعرية والصور الغنائية. وكذلك غلب عليه الحوار عوضًا عن خطاب الصورة، إذ لم يكشف المسلسل عن جمالية واتساع واحة الأحساء وتضاريسها. كما أن بنيته الدرامية على درجة من البساطة بالنظر إلى اعتمادها على سرد أفقي. بمعنى أنه اعتمد على أسلوب الإخبار. أي التعريف بالفضاء الذي عاشه الأسلاف. مع جرعات مكثفة من العادات والتقاليد والقيم. وتأكيد دائم على جوهرانية اللهجة، التي عملت في المسلسل كمكون بنيوي ولم تكن مجرد أداة تخاطبية تواصلية. لدرجة أنه ابتعد بعض الشيء عن الدراما في حلقاته الأخيرة بقدر اقترابه من التوثيق. وهذا هو ما يفسر الكيفية التي تحول بها المسلسل بعد انتصاف حلقاته إلى لوحات فلكلورية، فيما يشبه العرض البانورامي الذي يؤدي بطولته المكان باعتباره الحاضن والمؤطر للوحة الاجتماعية، وذلك للتأكيد على أن الدراما حركة محاكية.