فقدت دولة الإمارات العربية المتحدة في الثالث من شهر رمضان المبارك 1445 الموافق للثالث عشر من مارس 2024، رجلاً من رجالاتها الأفذاذ من رعيل الرواد والمؤسسين المكافحين العصاميين، وممن لازم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (1912 ــ 1990) طيب الله ثراه، فتخرج في مدرسته الفريدة في الحكمة وبعد النظر واستشراف المستقبل، ما جعله صاحب بصمة وعطاء في تاريخ نهضة دبي والإمارات في أكثر من مجال وموقع على مدى أكثر من ستة عقود.

وقد نعاه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في تدوينة على منصة «إكس» قال فيها: «سعيد جمعة النابودة في ذمة الله.. أحد رواد الأعمال في الإمارات.. ورئيس غرفة تجارة دبي سابقاً.. وأحد المقربين من الشيخ راشد رحمه الله، حيث تعلم من مدرسته في الحياة.. حط رحاله اليوم عند رب كريم.. في شهر فضيل.. نسأل الله أن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.. و((إنّا لله وإنّا إليه راجعون))».

قصة بدايات

ولد سعيد بن جمعة النابودة في دبي ابناً لعائلة عريقة ذات سمعة محمودة.

وفي تفاصيل سيرة الفقيد سعيد بن جمعة النابودة، نجد صديقه وزميله المؤرخ عبدالغفار حسين يخبرنا في مقال من جزأين نشرهما في إحدى الصحف الإماراتية في عام 2023 أنه تزامل مع الفقيد في كتاب الشيخ محمد حسين الجزيري في ديرة بدبي، وهما في سن السابعة، حيث تعلما القراءة والقرآن الكريم قبل أن يلتحقا معاً بالمدرسة الأحمدية (تأسست عام 1912 وأغلقت عام 1958 وسميت كذلك نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد بن دلموك الفلاسي).

ويضيف الكاتب إنهما وصديقهما ماجد الفطيم كانوا يلتقون في شبابهم يومياً ويتجولون في الإمارات ويذهبون في رحلات استجمام إلى رأس الخيمة وسلطنة عُمان، رغم صعوبة المواصلات آنذاك، ويترددون على مجلس المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ومجلس المرحوم الوجيه حمد الفطيم، واصفاً النابودة بالشخصية العصامية التي كونت نفسها بنفسها، وكانت مقربة من الشيوخ وقادة البلاد، وتحظى بتقديرهم واحترامهم بدليل مرافقته لهم في رحلاتهم الخارجية، حيث كان مثقفاً وهادئاً وحكيماً يطلع ويقرأ ويتابع، ويبدي رأيه إذا استشير بتعمق وتعقل، ما جعله ضمن مستشاري المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ومن المقربين إليه.

أما الكاتب محمد عبدالرشيد فقد أخبرنا في مقال له بجريدة «البيان» (13/3/2024) أن النابودة صاحب رحلة كفاح طويلة بدأت منذ يفاعته، وأنه كان يردد «لم أرث المال ولا التجارة من العائلة، لكنني ورثت ما هو أثمن من هذا كله، حيث ورثت عن الوالد رحمه الله الصبر والعمل بكل جهد لإثبات الذات والوصول للهدف، وكانت كلماته لي دائماً أنه لا شيء مستحيلاً».

أما عن علاقته بالمغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، فقال: «تربيت وترعرعت وتعلمت في أعرق مدارس العالم وهي مدرسة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، كنت محظوظاً بأن احتضنني، وكانت مقولته الدائمة لي إن (الدولة تعطيك الشبك لا السمك)، وكانت كلماته هي الشعلة التي أضاءت لي طريق النجاح».

1958

في عام 1958 افتتح سعيد، الابن الأكبر لجمعة النابودة مع أخيه الأوسط محمد متجراً صغيراً في ديرة بدبي لتجارة الآلات الزراعية برأس مال متواضع.

وبمرور الزمن وانطلاق ورشة البناء والأعمال في البلاد، وبسبب الدعم المعروف لصغار التجار لخلق بيئة تجارية واسعة، توسعت أعمال الأخوين الشريكين لتشمل قطاعات متنوعة إلى أن أصبحت كياناً ضخماً تحت اسم «شركة سعيد ومحمد النابودة القابضة ذات المسؤولية المحدودة».

هذا الكيان الذي يوظف اليوم نحو عشرة آلاف موظف من 50 جنسية ويضم 15 شركة مع قسمين تشغيليين رئيسين وهما «مجموعة النابودة للإنشاءات»، و«مجموعة النابودة التجارية»، ويتركز نشاطه على أعمال الهندسة المدنية والإنشاءات وأعمال الميكانيكا والكهرباء إلى جانب امتلاكه وكالات مجموعة متنوعة من العلامات التجارية الشهيرة عالمياً في مجالات السيارات والنقل والسفر والأجهزة الكهربائية والخدمات اللوجستية والزراعة وتشييد المدن الذكية والعقارات والطاقة المتجددة.

ومن خلال تعاضد الأخوين الشريكين، والتنويع المتواصل والابتكار والالتزام الصادق بالاستدامة، أصبحت مجموعة النابودة في عام 2017 أول كيان تجاري في الإمارات يفوز بجائزة الإمارات من قبل وزارة الموارد البشرية والتوطين كأكثر أماكن العمل سعادة، علاوة على فوزها بشهادة التقدير من فئة 4 نجوم من قبل حكومة دبي لتميزها في مجال علاقات العمل.

دور مؤثر

وفي العام 1958 تشكل في دبي أول مجلس بلدي حسب الأنظمة البلدية الحديثة، فكان النابودة عضواً فيه، بينما كان صديقه عبدالغفار حسين نائباً لمدير بلدية دبي. ومن خلال عضويته في البلدية كان له دور مؤثر في البناء والتطوير وتقديم المقترحات المفيدة القابلة للتطبيق.

وبالمثل كان له دور بارز لا ينسى إبان حصوله على مقعد في المجلس الوطني الاتحادي إلى جانب العضو محمد الموسى، منذ دورتي المجلس الأولى والثانية بين عامي 1972 و1978 حيث عمل بتفانٍ وإخلاص مع رئيسي المجلس ثاني بن عبدالله، وتريم عمران على التوالي، وكان من أبرز شخصيات اللجان المنبثقة عن المجلس هذا، ناهيك عن دوره الاجتماعي والثقافي والخيري المشهود على مدى نصف قرن.

والجدير بالذكر أن النابودة كان أيضاً عضواً فاعلاً في غرفة تجارة وصناعة دبي ثم صار رئيساً لها.

وإبان هذه الفترة الذهبية من عمر الغرفة، بذل الغالي والنفيس من أجل الترويج لدبي ولفت أنظار العالم إليها من منطلق إيمانه بأن دبي هي نموذج حي للبناء والتحضر والرقي والابتكار والجمال والوجهة المستقبلية العالمية لممارسة الأعمال، وذلك من خلال ترتيب زيارات مكثفة لوفود الغرفة لمعظم دول العالم، واستضافة العديد من الوفود العربية والأجنبية لدبي، وتنظيم المعارض الدولية والمنتديات والمؤتمرات لتبادل الخبرات في الداخل والخارج، وجلب وكالات جديدة ذات نفع لبلده، علاوة على احتضان وتطوير المنشآت الصغيرة، والمساهمة في تنميتها، وتطويرها والحفاظ على حقوقها مع الوكالات التي تمثلها بالخارج، وحماية المستهلك وحل مشكلات التجار.

وقد توج عمله في نهاية فترته بافتتاح المبنى الجديد الحالي للغرفة على خور دبي.

والجدير بالذكر أن الباحث العراقي المقيم في دولة الإمارات مؤيد الشيباني أصدر كتاباً عن حياة ومسيرة الفقيد بعنوان «سعيد بن جمعة النابودة، جيل الريادة والتأسيس في دولة الإمارات العربية المتحدة» ضمن مجموعة بحوثه عن قيم المكان ومعطياته وتجاربه.

ولسعيد النابودة أخ أصغر منه من مواليد دبي هو خليفة بن جمعة النابودة، وهذا لا يقل عنه بروزاً في مجال الأعمال التجارية، وخدمة الإمارات والارتباط بالأرض، والتحلي بروح المبادرة والإقدام، والانخراط في الأنشطة الخيرية، وبناء الصروح الإنسانية والثقافية مثل جمعية «بيت الخير» التي أسسها مع الوجيه جمعة الماجد وتولى فيها منصب نائب الرئيس وخصص لها وقفاً للإنفاق من ريعه على المحتاجين، ومثل قيامه بتأسيس أول كرسي أستاذية في الاقتصاد الإسلامي بمعهد دراسات العالم الإسلامي بجامعة زايد، بهدف تشجيع الدراسات والبحوث العلمية في المجالات ذات الصلة بالاقتصاد الإسلامي كما أنه كان من المقربين من المغفور لهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما.

وطبقاً لحوار أجرته معه إحدى الصحف الإماراتية (2/12/2021)، درس خليفة بالمدرسة الأحمدية ثم تلقى دراسته بكلية الشرطة في عدن، فعمل بشرطة دبي، قبل أن يسافر إلى مصر للدراسة هناك في كلية القادة والأركان. كما أنه عمل في جمارك دبي وميناء راشد وجمارك المطار. وفي بدايات قيام الكيان الاتحادي تم تعيينه مساعداً لوزير الدفاع، ثم عين في عام 1976 في منصب وكيل وزارة الدفاع برتبة عقيد.

وبعد تقاعده من السلك العسكري أسس وترأس «مجموعة شركات خليفة جمعة النابودة» التي تضم العديد من العلامات التجارية العالمية والمعروفة في عالم المركبات الألمانية، وتعمل في مجالات السيارات والعقارات والمصاعد والطباعة والنشر وتجهيز المنشآت والمقاولات والتموين والطيران والتعليم والفنادق، والسياحة والسفر والاستيراد والهندسة البحرية والصلب.

إلى ما سبق، شغل خليفة النابودة في مسيرته المتميزة بالدأب والتجارب المتنوعة عضوية المجلس الوطني الاتحادي، وعضوية مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة دبي، وعضوية مجلس دبي الاقتصادي.