على امتداد نصف القرن الماضي، تطور ما يسمى «علم الإيرانيات» إلى صناعة عالمية تضم العشرات من مراكز الفكر والمعاهد والكليات ومجموعات الضغط، التي تحاول فهم وشرح ما يجري في إيران التي أسسها الخميني عام 1979.

وعلى غرار «علم الكرملين» ـ صناعة صاخبة ازدهرت في أثناء الحرب القديمة ـ تجاهل «علم الإيرانيات» تاريخ إيران وثقافتها، التي تبين أنها تعبير حقيقي، وبالتالي دائم عن الأمة الإيرانية.

ومثلما الحال مع «علم الكرملين»، بالغ علماء «الإيرانيات» في استخدام، بل أساءوا استخدام عدد من المصطلحات لدعم ادعائهم بالخبرة: التشيع، والتقية، ومصدر المحاكاة، والفتوى، والإسلام الثوري وما إلى ذلك. وأضاف نعوم تشومسكي، أحد أكثر المعجبين المتحمسين لإيران، إلى القائمة: شعبي ومناهض للإمبريالية.

واشترك جميع هؤلاء في افتراض أنه كما كانت الحال مع علماء «علم الكرملين»، فإن نظام الخميني محصن ضد الأزمات، لأنه يمثل الصيغة الإيرانية لتبني الحداثة. وبلغ الأمر مبلغه مع نشر مجموعة من العلماء الفرنسيين المعنيين بـ«الإيرانيات» كتاباً ضخماً بعنوان «الحداثة في إيران».

ومع ذلك، صناعة العلوم الإيرانية في إصدار ضجيج مختلف في العامين الماضيين، مفادها أن نظام الخميني يعاني من أزمة ناجمة عن سياسات طهران الخارجية الاستفزازية.

إلا أن مثل هذه التحليلات، تغفل حقيقة أن السياسة الخارجية لأي نظام ليست في الأساس سوى استمرار لسياساته الداخلية. من جهتها، تركز طموح الثورة الخمينية في تحويل المجتمع الإيراني إلى أداة «لتصدير الثورة»، الهدف الأساسي للنظام، حسبما يؤكد «المرشد الأعلى» علي خامنئي. والعائق هنا أنه مع انحسار الجيل القديم من الثوريين، المؤلف من مزيج من المتعصبين اليساريين والدينيين، لا يجد الشباب الإيراني، اليوم، أي مصلحة له في تصدير أي آيديولوجية أو بناء إمبراطورية. في الواقع، لا يرغب الشباب سوى في أن يعيشوا «بالطريقة الإيرانية»، التي يقصدون بها رؤية للماضي يهيمن عليها الشعور بالحنين.

بوجه عام، يمكن القول إن الأزمة الراهنة داخل إيران نتاج 3 صراعات: بين الأجيال الأكبر سناً والأخرى الشابة، وبين الأغنياء الجدد والفقراء الجدد، وبين الثقافة الأبوية وفكرة المواطنة القائمة على القيم الدستورية.

خلال الأشهر الماضية، سلطت الاحتفالات بعطلة رأس السنة الإيرانية، التي استمرت 13 يوماً، الضوء على بعض جوانب الحرب الثقافية المستعرة داخل إيران على نحو حاد. وفقاً لوزارة السياحة، زار نحو 15 مليون إيراني مواقع تاريخية رئيسية في إيران، مثل برسيبوليس (عاصمة الإمبراطورية الأخمينية)، وضريح كورش الكبير في باسارغاد، وضريح يعقوب ليث، مؤسس أول سلالة حاكمة بحقبة ما بعد الإسلام في إيران، إلى جانب أضرحة عدد من الشعراء مثل السعدي والخيام وحافظ.

والأكثر إثارة للاهتمام أن أعداداً كبيرة زارت كذلك ضريح إستير، الجميلة اليهودية الأسطورية، التي جاءت برفقة عمها مردخاي، لمناشدة الملك دفاعاً عن شعبها داخل البلاط الأخميني.

المؤكد أن اهتمام الأجيال الشابة بإيران ما قبل الخميني ليس بالأمر الجديد. على مدى العقد الماضي، ظهرت مئات المنظمات غير الحكومية، في بعض الأحيان بدعم قدمته السلطات المحلية على مضض، لحماية وترميم وجذب الانتباه إلى الآثار القديمة، ومواقع الجمال الطبيعي مثل البحيرات والغابات والشلالات ومحميات الطيور والجبال والقرى. ويمكن النظر إلى ذلك بوصفه تعبيراً مادياً عن تعطش روحي لتأكيد هوية المرء.

في الوقت ذاته، نما الاهتمام بالأدب الفارسي الكلاسيكي بشكل كبير. وفي حين أن الشعراء الرسميين لا يجذبون سوى قليل من الاهتمام العام، يعاود اليوم الشعراء الكلاسيكيون، مثل الفردوسي وسعدي الرومي ونظامي وحافظ، الظهور في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً. ومع وجود المئات من الشعراء الكلاسيكيين المتاحين للقراءة في الفضاء الإلكتروني، لم يحظَ الشعر الفارسي بمثل هذا الجمهور الواسع من قبل.

في المقابل، لم تثمر جهود خامنئي لتحويل الشعر الفارسي إلى أداة سياسية و/أو أداة لترسيخ عبادة الشخصية سوى القليل. وفي الجلسة الأخيرة مع الشعراء الرسميين في وقت سابق من هذا الشهر، كان من كبار المتملّقين من النظام ورأسه، شاعر أفغاني وآخر هندي.

ومع فرض النظام مزيداً من القيود على صناعة الأفلام، فر كثير من السينمائيين الأكثر إبداعاً إلى المنفى، أو اختاروا التقاعد المبكر. بدوره، أسفر ذلك عن زيادة حادة في الاهتمام بالأفلام القديمة ما قبل الثورة المتاحة الآن في الفضاء الإلكتروني. واليوم، نجد أن النجوم القدامى الذين قضوا نحبهم منذ عقود مضت، أو قضوا سنواتهم الأخيرة في المنفى، يعودون فجأة بوصفهم رموزاً لما يعدّه كثير من الإيرانيين الآن الزمن الجميل.

وللالتفاف على قيود الرقابة، صور صانعو الأفلام الإيرانيون الشباب صناعة سينمائية أقرب لعمل الهواة للحفاظ على نوع السينما التي يفضلونها هم وقطاع كبير من الشباب الإيراني. تذكرني أفلامهم التي شاهدتها بالسينما الواقعية الجديدة التي تطورت في إيطاليا ما بعد الحرب. ومثل أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، فهي إنتاجات منخفضة التكلفة. على سبيل المثال، يتكلف فيلم يعرض مشاهد من الحياة في طهران أقل من 100.000 دولار، مع الاستعانة بممثلين غير محترفين ومشاهد طبيعية وكاميرا محمولة وإضاءة. وكما الحال مع الواقعيين الجدد في إيطاليا، فإن صناع السينما الجدد في إيران، على عكس القدامى مثل الراحل عباس كياروستامي، يتعاملون مع مشكلات اجتماعية وسياسية رئيسية.

ثمة ميدان قتال آخر في إطار هذه الحرب الثقافية، أسسه عدد كبير بشكل مدهش من مغني الراب، بعضهم مثل شاهين نجفي، وهيشكاس، وزيدبازي، وجستينا، وسوغاند، يتجاوز جمهورهم عدد ناخبي كثير من الأعضاء المنتخبين حديثاً في المجلس الإسلامي (البرلمان). اللافت أن جميع نجوم الراب تقريباً يعبرون عن رغبة صريحة أو لا شعورية، في العيش بمجتمع حر لا يعدّ السعادة والفرح، خطايا أو جرائم. وما يعرف الآن باسم الراب ظهر للمرة الأولى بإيران أوائل القرن العشرين، في أثناء الثورة الدستورية. وكان يُعرف باسم «بحر الطويل»، وكان يتناول في الغالب قضايا اجتماعية وسياسية. ولعب «بحر الطويل» دوراً رئيسياً في نقل رسالة الدستور إلى أبعد من صفوف النخبة المتعلمة في ذلك الوقت. اليوم، يفعل مغنو الراب في إيران الشيء نفسه، عبر إعادة تعريف شعبية للنغمات الموسيقية وكلمات الأغاني.

يدور الموضوع الرئيسي للحرب الثقافية حول فكرة أن إيران يجب أن تبني مستقبلها على أساس هويتها التاريخية والثقافية، وأن تعود إلى العالم الحديث كقوة خلاقة، وليست مدمرة. ويقف في طليعة الحرب الثقافية الدائرة اليوم ضد النظام ما تطلق عليه الدعايات في طهران «الجيل زد»، ويقصد به الجيل الثالث المولود بعد استيلاء الخميني على السلطة. ومع قطاع كبير من أبناء الجيل الثاني يشكل أبناء الجيل الثالث نحو نصف السكان اليوم، بينما ينتمي 60 في المائة ممن يتولون مناصب سياسية واقتصادية وثقافية اليوم إلى الجيل الأول من الثوريين.

ويأمل بعض المدافعين عن النظام في أن الأجيال الأحدث بما في ذلك «الجيل زد» الخطير، ستنضم إلى قوافل المتطوعين للشهادة مع تقدمهم بالعمر.

وجاء رد أحد مغني الراب المنتمين للجيل الثالث على النحو الآتي: نحن جريئون، جريئون، جريئون، ولن نتقدم في العمر أبداً، حتى نكسر القالب الجامد.