تضخمت الذات النرجسية الثورية لدى صدام حسين، بعد أن غذتها هتافات العرب القوميين والفلسطينيين، فأخطأ اللعبة واندفع بعيداً في تمرده بإعلان مشروع تحرير فلسطين ومعاداة الصهيونية وإسرائيل، وبناء دولة - ترسانة أسلحة روسية وعراقية تفرض شروطها على محيطها الإقليمي.

وفي لحظات التمجيد والتعظيم، استسلم صدام لانسراحات خيالية أعتقد خلالها أنه يعيد أمجاد صلاح الدين الأيوبي في تحرير فلسطين، أو يصبح البطل القومي الأول كما كان يُطلق على جمال عبد الناصر، وهذا ما كانت تترجمه قصائد الشعراء، وتتفنن برسمه وصياغته خيالات الفنانين في لوحات وجداريات وتماثيل امتلأت بها الشوارع والساحات التي بقيت وحدها تقاوم جيش الاحتلال لإزالتها، بعد أن هرب الرئيس وجيشه واختفت الملايين التي كانت تصفق له.

غياب عمق التفكير السياسي جعل صدام يتمادى في المراهقة السياسية الثورية، ولم يفكر للحظة لماذا تم اغتيال جمال عبد الناصر، وما هي الأسباب الحقيقية للاغتيال؟ وما سبب التخلي عن نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، ولماذا تركوه يسقط، مقابل دعم تيار إسلامي راديكالي صاعد للسلطة بزخم إعلامي غربي غير مسبوق؟ أحداث عديدة كانت تحصل في محيطنا الإقليمي أو قريباً منه ولم تُقرأ عراقياً قراءة مستقبلية على نحو وافٍ.

كان العقل السياسي العراقي الذي يدير الدولة في خمسينيَّات القرن الماضي أكثر تفهماً ووعياً في قراءة خرائط القوة الدولية وتوازناتها وخاصية دول الشرق الأوسط في توازن المعادلة الدولية تلك، مع نشوء إسرائيل، الحليف القوي لدول الغرب وأميركا، وماذا يراد من دول الشرق الأوسط المهمة ومنها العراق، وبقية الدول النفطية أو ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي.

النضج السياسي لنظام الحكم آنذاك، والقرارات السياسية الرشيدة في استثمار العلاقة مع الغرب بهدف استعارة الأنموذج الغربي والانفتاح عليه في بناء قواعد دولة حديثة قوية وراسخة، كان يقيّد حركة النمو والنشوء لدولة إسرائيل من جهة، وينهي معادلة العداء بين الشرق والغرب المتفوق من خلال بناء تحالفات عميقة مع بريطانيا وأميركا وفرنسا من جهة أخرى، من هنا كانت بريطانيا وأميركا تقف متفرجة على أيّ انقلابات تحدث للأنظمة الملكية، وتعطي المدى الأوسع لتمظهرات ما كانت تخبئ تلك المجتمعات من مظاهر ثورية تختلط بالغوغائية والانغلاق على شعارات معاداة الغرب والصهيونية والاستعمار ورافعة لعناوين قومية أو اشتراكية وتحررية وغيرها.

استدراج تلك المجتمعات والدول الغنية لموضوع الصدام مع الغرب من خلال وضعها على سكة القوة الوهمية بفضاء الشعارات القومية واليسارية، ثم مشاريع التسليح التي امتصت ثروات النفط وغير النفط لتظهر قوية، وتخوض حروباً تنتصر فيها جزئياً، وبمساعدة الصحافة والإعلام السياسي الموجه من قبل الغرب، إضافة إلى قواعد التأييد الشعبي الساذج المحكوم نفسيآً بجبروت السلطة، يدفع هذه الأنظمة إلى لحظة التصادم مع الغرب الذي يجتمع في تحالف ساحق ضد دولة تقف وحدها أمام هذا الغول الكوني المدمر؛ دولة تمضي عشرات السنين في بناء ترسانتها الحربية وسرعان ما تسقط وتتحول إلى هشيم عند المواجهة - المجزرة! تلك باختصار شديد قصة نهاية الدولة العراقية التي انحرف بها صدام حسين من سياقات الدولة الصاعدة تنموياً وصناعياً وزراعياً وعلمياً نحو آفاق القوة الاقتصادية والثروة المالية لغاية عام 1979 - 1980، سنة انتزاعه الموقع الأول في السلطة، إلى دولة غارقة بالصراعات والحروب والديون والأزمات والعداوات بعد عشر سنوات من فقدانها مواقعها الريادية على جميع المستويات وتحولها إلى شبح دولة.

إقرأ أيضاً: هل يدخل العراق الحرب نيابة عن إيران؟

لحظة الانهيار الأخيرة لنظام الدكتاتور صدام حسين في 2003 وانكشاف الوهم أمام الاحتلال الأميركي، لخصت للعراقيين والعالم مأساة دولة أهدر زعيمها مقدراتها وحياة شعبها وسلّمها "مجبراً" لقوى الاحتلال وتوابعه من أحزاب وتيارات سياسية نشأت في دوائر مخابرات غربية وعربية، وأخرى قفزت من الهامش أو قاع المجتمع لتُقبّل يد المحتل وتأخذ دورها في الحكم الجديد.

كان الشعب العراقي يترقب تحولاً تاريخياً يغادر فيه القيود والممنوعات والخوف ومظاهر الفاقة والعري الثقافي المفروضة من النظام الدكتاتوري، نحو آفاق الحرية والحياة الدستورية ونظام العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وسيادة السلام والروح المدنية في مناخ المواطنة وتحقيق ما فاته من تقدم تعيشه بقية شعوب المنطقة والعالم، الشعب الحالم لم يتأخر عن التصويت على الدستور والاشتراك بالانتخابات، بالرغم من الخسائر الفادحة التي قدمها جراء تفجيرات القاعدة والقوة المناهضة للتغيير تحت عناوين الجهاد والمقاومة، التي انتهت إلى صفقات سياسية مالية أو مشاركة بالسلطة وغنائمها.

كثافة الأحداث في المشهد العراقي لا يمكن اختصارها بمقال، لكن ما يعنينا هنا مفارقة لم تحدث سوى في العراق أو بعض التجارب المتماثلة مع العراق، وأقصد ما حدث مع نظام الدكتاتور معمر القذافي وما آلت إليه أوضاع دولة ليبيا الشقيقة. أي موضوع دورة الدكتاتورية في الحياة السياسية العراقية.

إقرأ أيضاً: إيران وإسرائيل والحرب المستحيلة

تجربة صدام حسين تناسلت في الوضع العراقي الجديد وعلى نحو مقرف ومشوّه وأكثر إساءة للعراق مما كان عليه الدكتاتور الكبير، ونختصر الأمثلة بوجود دولة عميقة إلى جانب الدولة العراقية ومراكز سلطة ليس من اليسير حصرها، واقتصاديات نفط واستثمار ومراكز نفوذ موزعة على مواقع السلطة السياسية والميليشياوية والمالية ومراكز قرار متعددة وبعضها في دول وحركات خارج العراق، وكل منها الحاكم بأمره، وكأنَّ شخصية صدام قد بُذرت في رؤساء وزعامات تلك الجماعات والأحزاب والتيارات السياسية.

مرّكب سياسي - مافيوي - سلطوي، هلامي الشكل، وسرّي الأبعاد والأهداف، يحكم بمساحات واسعة من القرار العراقي، عاد مرة أخرى لترنيمة صدام حسين بتحرير فلسطين وتدمير إسرائيل ومحاربة أميركا التي جاءت وسمحت لهذه "الخبطة" أن تتكاثر في سلطة المال والنفوذ داخل العراق، وإذا كان نظام صدام ينطلق من منهجية حزب البعث وأيديولوجيا سياسية تتعلق بأهداف وحدة الأمة العربية ومدعوماً بقوة عسكرية وجيوش لها وقعها في المحيط الإقليمي، فإنَّ الوضع السياسي الراهن ينبئ عن زعامات بالفراغ (فراغ القوة) ويفتقد لوحدة القرار العراقي، وتبرز فيه نزعة تصارع الزعامات الطائفية والقومية على السلطة في بلاد لا تملك مؤهلات القوة والحرب حتى على مستوى المحيط الإقليمي، فكيف بدول حربية مثل إسرائيل وأميركا!؟

إقرأ أيضاً: الديمقراطية العراقية: الإله الذي فشل!

لقد سقط شعار القومية والعروبة واعتلى الشعار الإسلاموي واستعارات تاريخية عن قصص ترتبط بالميثولوجيا الدينية ورغبات دولة القرار الإسلاموي، دون إدراك سياسي لأبعاد هذا التوريط ومؤهلات خوض هذا الصراع ومكاسبه، بل هو امتثال لعقائد ومحاور صراع إقليمي وتصادم استراتيجيات ليس للعراق فيه ناقة ولا جمل، بل هي اندفاعات غير محسوبة ستأتي بويلات جديدة على البلاد، ربما تزيد على ويلات الدكتاتور السابق، وشخصيته التي أبتْ أن تغادر الوطن... ليبقى العراق يرسف في أغلال دكتاتورية متجددة، مرة بعناوين قومية واشتراكية وأخرى بعناوين "ديمقراطية" وإسلامية.

* تصادف هذه الأيام من نيسان (أبريل) ذكرى ولادة صدام حسين، ومرور 21 عاماً على سقوط نظامه