عندما فكرت في الطّريقة التي كان والداي يعايدون بها أقاربنا، طفت على ذهني مقولة شائعة للكاتب الأميركي غريغوري جوديك "الحياة أصبحت صعبة جداً بسبب التغييرات التكنولوجية السريعة من حولنا، ولذا قبل أن تجف مشاعرنا، نتيجة تعاملنا الدائم مع الأجهزة، علينا أن نتذكر أننا بشر ولدينا أحاسيس وعواطف".

المقولة نفسها ذكِّرتني بصور المعايدات الصامتة، التي أصبحت تتهاطل علينا في مواسم الأعياد، كبديل عصريّ عن الزيارات الودية والاتصالات الهاتفية، فقد بتنا أشبه بكائنات صامتة، لا تجيد التعبير عن نفسها بالكلام.

على أية حال، لن تختفي المعايدات الإلكترونية من حياتنا، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه، خاصة أنها وسيلة مختصرة، تقلص المسافات وتكسبنا الوقت، فبكبسة زر وصورة واحدة، يمكننا أن نعايد جميع الأهل والأقارب والأصدقاء، حتى من دون أن نبرح أمكنتنا، لكنّي لا أنصح بها بالطبع!

المفارقة، أن عدداً كبيراً من الناس باتوا يميلون بشكل أكبر إلى استخدام الرسومات المتوفرة على غوغل ووسائل التواصل الاجتماعي، تكيّفاً مع عالم يعتمد على النسخ واللّصق للقوالب الجاهزة، ويتحاشى الكتابة أو المحادثة المباشرة.

إقرأ أيضاً: رجل أمن أم خبير عيون!

بالاستغناء عن الألفاظ، والتحول نحو الرموز الصامتة، فإن الكثيرين يستغنون عن اللغة المنطوقة، التي كبروا ونشأوا وهي تجري على ألسنتهم، في الوقت الذي يبدو فيه التأثير العاطفي للعبارات الصوتية، أكثر بلاغة من جميع أشكال التواصل البصرية.

قد نتقبّل فكرة استعمال الصم والبكم لطريقة المعايدة بالرموز التعبيرية، لكن المشكلة تكمن فيمن لا يعانون من أية عاهات أو مشاكل في فهم اللغة المنطوقة أو استخدامها، وإصابتهم بحمى التهافت على إرسال الصور الجاهزة، بدلاً من المعايدات الودية المباشرة.

كثيرا ما يتعلّل البعض بمقولة "الصورة تساوي ألف كلمة"، وهي صحيحة نوعاً ما، إلا أنَّ خطاب الصورة ودلالتها ساكنان وثابتان في معظم الأحيان، أمَّا التواصل اللفظي المنطوق أو عبر النص المكتوب، وباستخدام التعبيرات الوصفية والبلاغية، فإن لديه القدرة على إيصال الأفكار والعواطف، التي تدعم رسائلنا ومشاعرنا، وله تأثير قوي على الرابطة الدموية والعاطفية والاجتماعية بين الناس، وعلى ما يبلورونه من تصوراتٍ تجاه بعضهم بعضاً.

إقرأ أيضاً: "تكفين" الحليب في تونس

هناك الكثير من الفوائد القابلة للقياس، في المعايدات المباشرة بالكلمات المنطوقة، وأثرها الإيجابي الذي تتركه في النفوس، فمن خلالها تتداخل قيمنا ومشاعرنا مع قيم ومشاعر الأشخاص الذين نتبادل معهم عبارات اللطف والود، ما يساعد على بناء الثقة والاحترام، ويسهم في توطيد العلاقات وتشكيل روابط اجتماعية صحية.

اللغة المنطوقة جزء مهم من تاريخنا البشري التطوري، ولا تحتاج إلى التذكير بقيمتها في حياتنا، بقدر ما تحتاج المعايدات إلى ممارسات تلقائية وفعلية في الأوساط العائلية وبين الأحبة والأصدقاء، ولم لا تمارس بين عامة الناس بشكل خال من التكلف والمداهنة! فنفحة من التحابب والتوادد لا شك أنها لن تضر أحداً، بل ستكون فائدتها الجمة عامة على الجميع، فضلاً عن كونها ضامنة لاستقرار المجتمعات وازدهارها.

إقرأ أيضاً: التكاسل أبو علم النفس

زيارة الأهل من حين لآخر، تجعل الحياة أكثر حيوية بأفراحها وأتراحها، فلا نشعر بالقلق والضجر، لأنَّ المعايدات تهدئ الأنفس المتكدرة وتذلل المصاعب، بما تبعثه من رسائل حب وطمأنينة في الأنفس، أما قضاء الوقت مع شاشاتٍ خرساء عديمة المشاعر، فيقتل الكثير من العواطف النبيلة، ويصبح الجدب العاطفي أكبر دافع للصراع والفرقة، وعدم التوافق الفكري والنفسي داخل الأسر والمجتمعات.

الأسوأ من هذا كله، أنه يحرم أجيالاً بأكملها من تعلم الطرق الصحيحة للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكل مفهوم وواضح، ويحول دون اكتسابهم خبرات لغوية وشفوية متنوعة، تنفعهم في حياتهم الشخصية والمهنية.